فصل: قال بيان الحق الغزنوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال بيان الحق الغزنوي:

سورة البقرة:
المروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في ألم ونظائرها أن كل حرف منها عبارة عن اسم من أسماء الله مفتتح بتلك الحروف وعن الشعبي أنها أنفسها أسماء الله وعن عكرمة أنها أقسام.
وقيل هجاء ألم أي أنزل ذلك الكتاب وقيل أنها حروف الجمل الحسابية إشارة إلى مقادير أشياء وآجال قوم وقال قطرب كانت العرب تعاهدوا أن لا يسمعوا القرآن وبلغوا فيه فافتتح بما لا يعلم تطرقًا إلى استماع ما يعلم وقال ثعلب إن الافتتاح بما لا يعلم صحيح على مذهبهم كقولهم ألا إنك كذا ولا معنى في ألا سوى استحضار قلب السامع فكذلك أمر هذه الحروف وأكثر هذه الأقاويل مدخولة لأنها ليست على نهج كلام العرب ولأنه لا يجوز في كلام الحكيم الأصوات الخالية من المعنى وإنما الصواب في أحد الأقوال الثلاثة أحدهما أنها من المتشابة الذي لا يعلم تأويله إلا الله وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال إن لكل كتاب سرا وسر الله في القرآن أوائل السور ولأنها سميت معجمة لإعجام بيانها وإبهام أمرها والقول الثاني ما قاله الحسن إنها أسماء للسور لأن الله أشار بها هاهنا إلى الكتاب فإما أن يكون اسما للمشار إليه أو صفة وليس الموضع موضع الصفة لإنها لتحلية الموصوف بالمعاني المخصصة ولا معاني لهذه الحروف فتعينت أسماء أعلامًا فإن قيل فلم لم يعم جميع السور بالتسمية قلنا كما خص بعضها بتشريف في المعنى فإن قيل اشتركت سورتان وثلاث في تسمية قلنا كما يشترك جماعة من الناس في اسم واحد فإن قيل فيجب أن يكون غير السورة من حيث كان الاسم غير المسمي قلنا من يقول ذلك فإنما يقوله في الأشخاص التي حكمها حكم الألفاظ والقول الثالث أنها إشارة إلى أن ذلك الكتاب يتألف كم خذه الحروف كتأليف كلامهم فلو كان من عند غير الله لأتيتم بمثله ومعنى الإشارة في ذلك الكتاب الموعود إنزاله في الكتب السالفة من هذه الحروف وقيل معناه ذلك الكتاب الموعود بقوله: {إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا}.
وقال الأصم يعني بذلك ما تقدم من القرآن فقد سبق البقرة سور كثيرة قال المبرد وأمثال هذا التقدير الذي يقر ذلك على وضعه أولى من التحول إلى أن ذلك بمعنى هذا وهما غير أن حاضر وغائب إلا أنه جاء أن ذلك معناه هذا عن الضحاك وغير في الكتاب الموفق.
قال أبو عبيدة لقيني ملحد مرة فقال يا أبا عبيدة ألم ذلك الكتاب وهو هذا الكتاب فأي شيء ذلك من هذا؟ فقلت إن قبلت الحجة العربية قال هات قلت قلو خفاف بن ندبة إن تلك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا وقلت له والرمح يأطر متنه تأمل خفافًا إنني أنا ذلكا لا ريب فيه إخبار عن كون القرآن حقا مصدقا إذ أسباب الشك عنه زائلة وصفات التعقيد والتناقض منه بعيدة والإعجاز واقع والهدى حاصل والشيء إذا بلغ هذا المبلغ اتصف بأنه لا ريب فيه فيبطل بهذا سؤال من يقول إن المنكرين لا يقل ريبهم بالقول إنه لا ريب فيه واختصاص المتقين بهداهم على هذا الطريق وقيل إنه على جهة التعظيم لقدرهم والإشادة بذكرهم الذين يؤمنون بالغيب أي بما يغيب عن الحواس ولا يدرك إلا بالعقول وقيل بل المراد أنهم يؤمنون بالله ورسوله بظهر الغيب لا كالمنافقين الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وهذا كقوله تعالى: {من خشى الرحمن بالغيب} وقوله: {ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب} وقال الهذلي:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة ** فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي

والجار والمجرور في بالغيب من البيت والآية في موضع حال أي تحفظني غائبًا ويؤمنون غائبين عن مراءاة الناس ومخافتهم وعلى القول الأول في موضع المفعول به إن الذين كفروا سواء عليهم في قوم من الكفار أخبر الله بعلمه فيهم كما أخبر نوحا فقال أنه لن يؤمن من قومك والحكم في الإنذار مع العلم بالإصرار إقامة الحجة وقيل ليكون الإرسال عاما وقيل لثبات الرسول على محاجة المعاندين وإنما جرى لفظ الاستفهام في ءأنذرتهم ومعناه الخبر لأن فيه التسوية التي في الاستفهام ألا ترى أنك إذا استفهمت فقلت أخرج زيد أم قام فقد استوى الأمران عندك في الإبهام وعدمه على أحدهما بعينه كما إذا قلت في الخبر سواء على أخرجت أم أقمت كان الأمر في التسوية كذلك قال حسان ما أبالي أنب بالحزن تيس أم لحاني بظهر غيب لئيم وسمهم بسمة تعرفها الملائكة وفائدتها الوضع منهم والتبكيت كما أنه لما كتب الإيمان في قلوب المؤمنين كان تحلية لهم بما يرفعهم آية على التشبيه لحالهم بحال المطبوع على قلبه المضروب على سمعه وبصره كما قال لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي وقال مجاهد الشيء إذا ختم ضم فالقلب إذا ران عليه المعاصي انضم ولم ينبسط بالإنذار ولم ينشرح بالإيمان وقيل إن المراد حفظ ما في قلوبهم للمجازاة إذ كل شيء يحفظ فإنه يختم وقيل إنه على الدعاء عليهم لا الخبر عنهم وقيل بل المراد ظاهره وهو المنع ولكن المنع منعان منع بسلب القدرة ومنع بالخذلان والذي يجوز على الله منهما الخذلان وحبس التوفيق عقوبة لهم على كفرهم وإنما لم يجمع السمع لأنه أجرى مجرى المصدر أو لأنه توسط الجمعين فكان جمعا بدلالة القرينة مثل السموات والأرض والظلمات والنور يخدعون الله قد تكون المفاعلة من الواحد مثل عافاه الله وقاتله وعاقبت اللص وطارقت النعل ومعناه يعملون عمل المخادع وقيل إن المراد مخادعة الرسول والمؤمنين حين يساترونهم ما في قلوبهم لان الله لا يخفى عليه السرائر ولا يحتجب دونه الضمائر وهذا كقوله: {إن الذين يؤذون الله ورسوله} أي يأذون أولياء الله وأصل الخداع الاخفاء ومنه الحديث بين يدي الساعة سنون خداعة لأن امرها يخفى يظن بها الخصب فتجدب والدهر يقال له الخداع اخفاء صروفه ونلون خطوبه كما قال الأنصاري:
ذات أساهيج جمالية ** حشت بحاري وإقطاع

أقضي بها الحاجات إن الفتى ** رهن بذي لونين خداع

وقيل معنى مخادعتهم إفسادهم ما بينهم وبين الله خدع الشيء فسد قال سويد حرة تجلو شتيتا واضحا كشعاع الشمس في الغيم سطع أبيض اللون لذيذا طعمه طيب الريق إذا الريق خدع وعلى هذا يطرد بمعنى وما يخادعون إلا أنفسهم لأن الإنسان يفسد نفسه ولكن لا يخفى عن نفسه شيئا يعلمه في قلوبهم مرض أي شك قال البعيث فقلت لبشر إذ تبينت إنما يراد بنا في الأمر صماء صيلم تيقن فإن الشك داء وإنما ينجيك مصروم من الأمر مبرم وقيل غم وحزن كما قال حارثة بن بدر الغداني:
إذا الهم أمسى وهو داء فأمضه ** ولست بممضيه وأنت تعادله

وقل للفؤاد إذا نزا بك نزوة ** من الروع أفرخ أكثر الروع باطله

وقيل مداجاة ونفاق كما قال أجامل أقواما حياء وقد أري صدورهم تغلى على مراضها وقيل معناه ظلمة وغمة كما قال:
وليلة مرضت من كل ناحية ** فما يضيء لها شمس ولا قمر

ولو أجرى المرض على ظاهره لكان أيضا قريبا فإن القلب جارحة من الجوارح يكون سليمًا وسقيما وسويا وناقصا وإنما داؤه الجهل والفساد وودواؤه التعليم والإرشاد وأطباؤه الأنبياء ومن بعدهم العلماء قال السدي وزادهم عداوة الله مرضا فحذف المضاف كقوله: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله} أي من ترك ذكر الله وقيل زادهم الله بما فاتهم من حدود الشريعة وفروضها لأن من دعى إلى خير فلم يصلحه ازداد شرا إلى شر، ولهذا قيل إن القلب الغير التقي كلما هديته المراشد زدته فسادا كالبدن الغير نقي كلما غذوته الأطايب زدته سقاما وقيل زادهم مرضا زيادة تأييد الرسول وعلى القولين إضافة مرض قلوبهم إلى الله على طريق تسمية المسبب باسم السبب إذ الله لما كان هو الذي شرع الدين ونصر الرسول وهما سبب مرضهم جازت إضافة زيادة المرض إلى الله بسبب زيادة الآيات كما قال الفرزدق:
سقتها خروق في المسامع لم تكن ** علاطا ولا موسومة في الملاغم

أي لما سمعت السقاة أنها إبل فلان سقوها إتلالا فكان سبب السقي فعبر بالسبب عن المسبب بهذه الفصاحة وأنشد ابن السراج في مثل هذا الموضع شعر ذر الآكلين الماء ظلمًا فما هم ينالون خيرا بعد أكلهم الماء والماء لا تؤكل ولكنهم كانوا يبيعون شرب الأرض من صاحبها فيشترون بثمنه ما يأكلونه فاكتفي المسبب ومثله كثير الله يستهزئ بهم أي يجازيهم بالعقوبة على استهزائهم وقيل يرجع وبال استهزائهم عليهم وحمله ابن عباس رضي الله عنهما على استدراجهم والاستدراج زيادة النعم على التمادي في الخطيئات وقيل إنهم عوملوا في الدنيا بأحكام المسلمين وإذا دفعوا إلى أشد العذاب كان كالاستهزاء بهم وروى عدي بن حاتم في حديث طويل أنه يفتح لهم بابا الجنة ثم يرصفون إلى النار.
وقيل إنه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى: {وجزؤا سيئة سيئة} قال تميم بن مقبل لعمر أبيك لقد شاقني خيال حزنت له أو حزن وقال مزاحم العقيلي بكت درهم من نأيهم فتسرعت دموعي فأي الباكين ألوم أمستعبر يبكي من الهون والبلي أم آخر يبكي شجوه ويهيم وليس ثم حزن ولا بكاء ولكنهما مزاوجة ومكافأة ويمدهم في طغيانهم يملي لهم ويعمر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يكلهم إلى نفوسهم ويخذلهم واختيارهم وقيل إنه على حذف المضاف أي يمدهم في جزاء طغيانهم ومد أمد واحد وقيل مد في الأمد وأمد في العدد وقال الفراء مد في الشيء له جاذب وفاعل وأمد من غيره والطغيان تعدي الطور وتجاوز القدر والهمة والحيرة.
فما ربحت تجارتهم جاءت على سماعة العربية وإن كان الرابح هو التاجر كما قال جرير تعجب إذا فاجأني الشيب وارتقي إلى الرأس حتى ابيض مني المسائح فقد جعل المفروك لأنام ليله يحب حديثي والغيور والمشايح مثلهم كمثل الذي استوقد نارا قال السدي نزلت في قوم أسلموا ثم نافقوا.
وقال سعيد بن جبير نزلت في اليهود كانوا ينتظرون مبعث النبي عليه السلام ويستفتحون به فذلك استضاءتهم ثم كفرهم به ذهاب نورهم ويندفع على التأويلين قول الطاعن كيف يمثل المنافق الذي لا نور له بمن أعطي نورا ثم شاب أو كصيب الصعيب فيعل من صاب يصوب كسيد من ساد يسود ومعناه ذو صوب فيجوز مطرا ويجوز سحابا.
والرعد صوت الملك الذي يسوق السحاب والبرق ضربة السحاب بمخراق من على وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن الرعد ريح تختنق في السحاب والبرق سقط السحاب إذا انقدحت بالريح.
وقد جاء كثير بمثل هذا في شعره فقال تألف واحمؤمي وخيم بالربي أحم الذري ذو هيدب متراكب إذا زعزعته الريح أرزم جانب بلا خلف منه وأومض جانب.
وأما الذي جرى له التمثيل بالصيب هو القرآن عند ابن عباس فإن ما فهيه من القصص والمواعظ والتسلية والبشارة وأسباب الهداية كالمطر الذي ينفع حيث يقع وما فيه من الوعيد والتحسير والذم للكافرين كالظلمات والصواعق وعند الحسن هو الإسلام وتقريب المماثلة بينهما أن المطر لا يتم منافعه إلا ومعه الرعد والبرق والظلمات فكذلك الإسلام تمامه باحتمال المتاعب في العبادات وتعريض النفس للقتل في الجهاد والمؤمنون يصبرون عليها والمنافقون يحذرون منها وتقريب آخر أن المطر وإن كان حياة الأرض فإذا وقع على هذه الأعراض راع المسافر وحيره فكذلك إيمان المنافق مع إسراره الكفر وقال في قوله يكاد البرق يخطف أبصرهم أن من لم يكن ضوءه إلا لمع بارق فالضوء عنه بعيد وقد كثر هذا المعني في أشعارهم قال جرير:
منعت شفاء النفس ممن تركته ** به كالجوى مما تجن الجوانح

وجدتك مثل البرق تحسب أنه ** قريب وأدنى ضوئه عنك نازح

وقال كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعد ما ** تخليت مما بيننا وتخلت

لكالمرتجي ظل الغمامة كلما ** تبوأ منها للمقيل اضمحلت

وقال ابن حطان:
أري أشقياء الناس لا يسأمونها ** على أنهم فيها عراة وجوع

أراها وإن كانت تحب كأنها ** سحابة صيف عن قليل تقشع

{لعلكم تتقون} لكي تتقوا وهو معنى كل لعل في القرآن لأن الله يتعالى عن معاني الشك وقال المبرد بل هي على أصلها في الشك والرجاء من المخاطب أي أعبدوه على رجاء أن يتم لكم التقوى والترجية في مثل هذا أبلغ لأنه ترقيق للموعظة وتلطيف في العبارة وفائدة أخرى وهي أن لا يكون العبد من المدل بتقواه بل حريصا على العمل حذرا من الزلل.
فأتوا بسورة من مثله أي مثل ما نزلنا وقيل من مثل عبدنا من رجل لا يقرأ ولا يكتب والشهداء الآلهة وقيل الأعوان ولن تفعلوا اعتراض بين الشرط والجزاء مثل وأنت منهم في بيت كثير لو أن المخلفين وأنت منهم رأوك تعلموا منك المطالا وقال عبيد الله بن الحر تعلم ولو كاتمته الناس أنني عليك ولم أظلم بذلك عاتب فقوله ولو كاتمته الناس اعتراض بين الفعل ومفعوله ولم أظلم بذلك اعتراض بين اسم أن وخبرها والاعتراض في أشعار العرب كثير لأنه يجري مجرى التوكيد ولنا فيه كتاب اسمه قطع الرياض في بدع الاعتراض وقودها الناس والحجارة قيل إنها حجارة الكبريت فهي أشد توقدًا وقيل إنها الأصنام المعبودة فهي أشد تحسرا وقال الجاحظ كأنه حذرهم نارا تشتعل لشدتها وعظم مادتها في الحجارة كما قال القطامي يمشين رهوا فلا الإعجاز خاذلة ولا الصدور على الأعجاز تتكل حتى وردن ركيات الغوير وقد كاد الملاء من الكتان يشتعل فوصف الحر باشتعال الكتان منه مع نداوته وطراوته وأتوا به متشبها أي التذاذهم بجميع المطاعم والمشارب متساو ولا يتناقص ولا يتفاضل وعن ابن عباس: متشابها في المنظر وإن اختلف في المطعم فيقولون ما لم يطعموه هذا الذي رزقنا من قبل ولا يحمل على تشابهه بثمار الدنيا لأنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إنه ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا أي لا يدع ولا يمتنع والاستحياء عارض في الإنسان يمتنع عنده عما يعاب عليه وذلك لا يجوز على الله ولكن ضرب المثل بالحقير إذا تضمن جليل الحكمة لا يستحي عنه فقارب جل اسمه الخطاب في التفهيم باللفظ المعتاد مثلا ما بعوضة تقديره أن يضرب مثلا ما أي من الأمثال فيتم الكلام على ما ثم بعوضة نصب على البدل وهذا هو الصواب تنزيها للقرآن من لفظ خال عن معنى وقال الكسائي نصب بعوضة بمعني ما بين بعوضة فما فوقها فلما ألقيت بين نصبت كما تقول العرب وهي أحسن الناس قرنا فقدما أي ما بين قرن فقدم فما فوقها أي في الكبر من الذباب والعنكبوت لأن إنكار اليهود كان لضرب الله المثل لمهانتهما وقيل فما فوقها في الصغر لأن القصد هو التمثيل بالحقير فما كان أصغر كان إلى القصد أقرب بل لا نتجاوز فيما زاد به التحقير إلا إلى ما هو أحقر وأصغر فلا يقال ماله على درهم ولا عشرة ولكن درهم ولا دانق فإن قيل فكذلك لا يقال فوق والمراد به ما هو دونه قلنا يقال كقولك فلا قليل العقل فيقال وفوق ذلك يضل به كثيرا حيث يحكم عنده بالضلال وقيل حيث أضلهم عن جنته وثوابه.
وقيل إضافة الإضلال إلى الله وإلى المثل المضروب وإن كان حكمة لوقوع الضلال عنده كقوله عز وجل في الأصنام: {رب إنهن أضللن كثيرا} لما ضلوا بسببها وقال الأخفش وهذا كما يقال أهلكته فلانة إذا هلك في عشقها كذلك إذا ضلوا في دين الله وبعضهم على الإملاء فيه والإمهال وبعضهم على مصادفتهم عليه من أضل ناقته إذا ضلت هي قال ذو الرمة:
أضله راعيا كلبية صدرا ** عن مطلب وطلى الأعناق تضطرب

وقال آخر:
هبوني امرءا منكم أضل بعيره ** له ذمة إن الذمام كبير

{الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه} عهده وميثاقه ما أمر به في كتبه وعلى لسان رسله وقيل هو حجة الله القائمة في عقل كل أحد على توحيده وعلى وجوب بعثه للرسل وقيل المراد يمينهم في قوله وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير.
وسيبويه لا يجيز إعادة الثاني مظهرا بغير لفظ الأول فلا يجوز زيد مررت بأبي محمد وكنيته أبو محمد ويجوز بلفظ الأول كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} و{القارعة ما القارعة} قال ابن حطان لا يعجز الموت شيء غير خالقه والموت فإن إذا ما حل الأجل وكل شيء أمام الموت متضع للموت والموت فيما بعده جلل فعلى مذهب سيبويه لا يكون الميثاق العهد بل يكون صفة للعهد والأخفش يرد عليه ويقول إنه إذا لم يعد لفظ الأول البتة وعاد مخالفا للأول شابه بخلافه له المضمر الذي هو أبدا مخالف المظهر.
وهو أحسن مثل قولك زيد مررت ألا ترى إلى قول كلحبة أمرتكم أمري بمنعرج اللوى ولا أمر للمعصي إلا مضيعا إن المرء لم يغش الكريهة أوشكت حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا فالفتى غير لفظ المرء وهو المرء المذكور فكذلك الميثاق والعهد وكنتم أمواتا أي نطفا في أصلاب آبائكم أو أمواتا في القبور.
فأحياكم فيها للسؤال ثم يميتكم للبعث لأن الموت ما كان عن حياة إلا أن الموت ولا شيء سواء فيجوز كنتم أمواتا أي لم تكونوا شيئا لاسيما وهو على مزاوجة الموتة الحقيقة ثم استوى إلى السماء قصد إلى خلقها وقال الحسن ثم استوى أمره الذي بع تكونت الأشياء إلى السماء وقيل ثم استوى تقديره إلى السماء لأن القضاء بجميع أحوال العالم ينزل من السماء فحذف الأمر والتقدير لدلالة الحال.
وقال الأصم الاستوى صفة الدخان المحذوف الذي كانت منه السماء وفيه بعد لمعاندة الظاهر له وقال الفراء: معناه أقبل عليها تقول العرب كان فلان ينظر إلى غير ثم استوى إلى وقيل معناه استولى على ملك السماء ولم يجعلها كالأرض التي ملكها عباده كما قال فلما تولوا واستوينا عليهم تركناهم صرعي لنسر وكاسر.
وفي الآية ما يبطل الحمل على الانتصاب لأنه لا يليق بذكر الإنعام بما خلق ولأنه لا يتعلق به فسواهن فإن قيل في هذه الآية خلق السماء بعد الأرض وفي قوله بعد ذلك دحها خلق الأرض بعد السماء قلنا الدحو ليس من الخلق وإنما هو البسط بجاز أنه دحاها بعد أن خلقها وبني عليها وكذلك التسوية ليس بخلق فجائز أنه جعلها سبعا بعد خلق الأرض وكانت مخلوقة قبل كما في الحديث أنها كانت دخانا إني جاعل في الأرض خليفة قيل كانت الخلافة عن الملائكة.
وقيل عن الجان الذين أجلاهم الملائكة بسبب فسادهم وقيل المراد بالخليفة جميع بني آدم أن يخلف بعضهم بعضا وعن ابن مسعود المراد أولو الأمر من عهد آدم إلى أنقضاء العالم فكلهم خلفاء الله في الحكم بين الخلق وتدبير ما على الأرض أتجعل فيها من يفسد فيها قالوا ذلك على التألم والاغتمام لمن يفسد وقيل على الاستعصام للمعصية مع عظيم النعمة وقيل على الاستعلام لوجه التدبير فيه.
وقيل على السؤال أن يجعلهم خلفاء الأرض ليسبحوا بدل من يفسد فقال عز وجل: {إني أعلم} من صلاح كل واحد {ما لا تعلمون} فدلهم بذلك أن صلاحهم في أن أختار لهم السماء وللبشر الأرض {وعلم ءادم الأسماء} بمعانيها على اللغات المختلفة فلما تفرق ولده تكلم كل قوم بلسان أحبه واعتاده وتناسوا غيره على الأيام كما أن الله تعالى علمه الأسماء علمه الأفعال والحروف التي هي أصول الكلام لأن المعني ينتظم بجميعها والفضيلة بتصور المعني لا بتداول اللفظ ولكنه لابد للكلام المفيد من الاسم وقد يستغني عن الفعل والحروف فلقوة الاسم وغلبته على الكلام جرى الاكتفاء بذكره مما هو تال له وهكذا كما قال المخزومي الله يعلم ما تركت قتالهم حتى علوا فرسي بأشقر مزبد.
وعلمت أني إن أقاتل بعدهم أقتل ولا يضرر عدوي مشهد فخص الله بالذكر على معني أنه إذا علمه الله لا أبالي استشهدت غيره أولم أفعل لا لأنه أمر خفي لا يعلمه غير الله ألا ترى إلى عنترة وذكره علم الفوارس مع علم الله في قوله الله يعلم والفوارس أنني فرقت جمعهم بطعنة فيصل وأما كيفية تعليم آدم الأسماء فينبغي أن يعلم أنه لا يجوز ذلك بالعلم الضروري لأن المعرفة بالله وصفاته بالاستدلال فكذلك بقصده وإرادته.
ولا يجوز ذلك بالمواضعة والإيماء لأنه يتعالى عنه فيكون بالوحي والتوقيف حجة معجزة من خلقه في أول ما أعقله إلا أن أول اللغة يكون بالمواضعة من الخلق والاصطلاح عليها ثم الله يغيرها ويكثرها بالوحي بأن يوقف على مراتب الأسماء والمصادر وكذلك مبادئ الأفعال والحروف ثم يهدي للتصرف للتصرف والاشتقاق ثم عرضهم على الملائكة يعني المسميات بدليل قوله أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صدقين فيما هجس في نفوسكم أنكم أعلق الخلق وأفضلهم فإن قيل كيف أمروا بالإنباء مع العلم أنهم لا يعلمون.
قلنا لأن القصد هو التقرير والتنبيه على مكان الحجة ولأنه أمر مشروط على الحقيقة لأنه متعلق بشرط كونهم صادقين أي عالمين فإذا لم يكونوا عالمين لم يكونوا مأمورين وكان القاضي أبو القاسم الداودي يحتج بهذه الآية أن علم اللغة أفضل من التخلي للعبادة لأن الملائكة تطاولت بالتسبيح والتقديس ففضل الله آدم عليهم بعلم اللغات فإن كان الأمر على هذا في علم الألفاظ فكيف في المعالم الشرعية والمعارف الحكمية.
قالوا سبحانك أي تنزيها لك أن يخفى عليك شيء وهو نصب على المصدر كقولك تسبيحا لك وكذلك سائر المصادر العقيمة الغير المتصرفة مثل معاذ الله وعمرك الله وقعدك الله وأشباهه كلها يجري مجرى المصادر المتصرفة المطلقة إلا ما علمتنا في موضع الرفع لأنه استثناء من مجحود ألم أقل لكم ألف تنبيه وتقرير لا تقريع وتوبيخ كأنه أحضرهم ما علموه لأن مكانهم أعلى وعلمهم بالله أقوى من أن يخفى عليهم ذلك وهو كما قال جرير:
ألم يعلم الأقوام أن لست ظالما ** بريئا وأني للمتاحين متيح

فمنهم رمى قد أصيب فؤاده ** وآخر يبغى صحة فمرنح

{وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} قيل إنه السجود اللغوي الذي هو التذلل والخشوع كما قال زيد الخيل بني عامر هل يعلمون إذا غدا أبو مكنف قد شد عقد الدوابر بجمع يضل البلق في حجراته ترى الأكم منها سجدا للحوافر وقيل إنه كان تعظيما لآدم لا عبادة وقيل ما كان لآدم فيه من تعظيم ولكنه كان قبلة وكان السجود لله ولكنه مع هذا لا يخلو عن ضرب من التعظيم.
والمروى عن ابن عباس في بعض الروايات أن إبليس كان ملكًا من جنس المستثنى منهم وعن الحسن أن الملائكة هم لباب الخليقة خلقوا من الأرواح الطاهرة والأنوار الصافية لا يتناسلون وإبليس شخص روحاني خلق من نار السموم وهو أبو الجن وزوجك الجنة سقطت علامة التأنيث للاستغناء عنها بالإضافة المذكرة.
وابن بحر يذهب في الجنة أنها كانت بحيث شاء الله من الأرض لأن جنة الخلد لا انتقال عنها ولأن إبليس لم يكن ليدخلها حتى يزلهما عنها والصحيح أنها كانت جنة الخلد لتواتر النقل ولأجل لام التعريف وقوله وقلنا اهبطوا أيضا يدل على أنهم كانوا في السماء وأن إبليس لم يكن إذ ذاك ممنوعا عن السماء كالجن عن استراق السمع إلى المبعث فوسوس إبليس لهما وهو على القرب من باب الجنة أو ناداهما وهما على عرف الجنة والرغد الكثير الواسع الذي لا عناء فيه.
والشجرة المنهية هي السنبلة رواه أبو بكر عن النبي عليه السلام ومنه قيل كيف لا يعصى الإنسان وقوته من شجرة العصيان وكيف لا ينسى العهد واسمه من النسيان وعن ابن مسعود أنها الكرم ولذلك صارت فتنة ولأن الشجر ماله ساق وغصن فتكونا من الظالمين من حيث إحباط بعض الثواب لأن ذم الأنبياء بالظلم لا يجوز إلا على تأويل صحيح.
وقيل إن فاعل الصغيرة أيضا ظالم نفسه من حيث ألزمها ما يشق من التوبة والتلافي وكون الزلة صغيرة مغفورة لا ينافي وجوب التوبة كما لا ينافي ثبوت الحرمة فأزلهما الشيطن عنها أي أكسبها الزلة وقيل إنه متعدي زل أي عثر وإزلاله بوسوسته لهما وقيل بأن قاسمهما على نصحه وزلة آدم عليه السلام كانت بالخطأ في التأويل إما بحمل النهي على التنزيه دون التحريم وإما بحمل اللام على التعريف لا الجنس إذ الظاهر دلالة النهي على عين المنهي عنه لا جنسه إلا أنه تعالى أراد الجنس ومكن آدم من علم الدليل فغفل عنه وظن أنه لا يلزمه ذلك وقيل إن زلته أكله ناسيا بعض النسيان ربما يؤخذ على الأنبياء لما يلزمهم من التحفظ والتيقظ كثير فيكون صدوفهم عن تذكر النهي حينئذ تفريطا وقلنا اهبطوا منها الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض والهبوط الأول وإن لم يكن نزولا لأن الجنة في السماء إلا أنه ما كان فيه انتقال المكان مع سقوط المرتبة كان كقول لبيد:
كل بني حرة مصيرهم قل وإن كثروا من العدد إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما فهم للفناء وإن أمروا يوما فهم للفناء والفند وفي هذه القصة كل التحذير من المعاصي ليحضر العبد قلبه ما جرى على آدم بارتكاب صغير مع التأويل فلا يرتكب الكبائر وقد نظمه بعضهم فقال:
يا ساهرا ترنوا بعيني راقد ** ومشاهدا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ** درك الجنان ونيل ملك خالد

ونسيت أن الله أخرج آدم ** منها إلى الدنيا بذنب واحد

{فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي} جواب الشرط الأول محذوف أي فإما يأتينكم مني هدى فاتبعوه وقال ابن سراج الشرط وجوابه نظير المبتدأ والخير ويجوز خبر المبتدأ جملة هي خبر ومبتدأ فكذلك جواب الشرطة جملة شرط وجواب ولا تكونوا أول كافر به أي أول حزب أو قبيل كافر به كما قال:
وإذا هم طعموا فألام طاعم ** وإذا هم جاعوا فشر جياع

وكأنه حذرهم أن يكونوا أئمة الكفر وقادة الضلال ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا قال الحسن هو الدنيا بحذافيرها وقال ابن عباس كان لكعب بين الأشراف وغيره مأكله على اليهود في كل مكان سنة فغيروا صفة الرسول لها واركعوا مع الركعين ذكر الركوع مع تقدم ذكر الصلاة تأكيدا لأنه لا ركوع في صلاة أهل الكتاب.
وقيل إن المراد به صلاة الجماعة فعبر عنها بالركوع لأنه أول ما يعرف به المرء مصليا وقيل أراد الركوع اللغوي وهو التذلل والخضوع أي اخضعوا مع الخاضعين قال السعدي ولا تهين الكريم علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه وإنها لكبيرة أي الاستعانة بالصبر والصلاة وكل واحد منهما لكبيرة وقيل بل رد اللفظ إلى أهم المذكورين أو إلى أقربهما كما قال السعدي: لكل هم من الهموم سعة والمسى والصبح لا فلاح معه الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي ملاقوه بذنوبهم وتقصيرهم وقيل يظنون أنهم ملاقوه في كل حين لشدة مراقبتهم الموت فيخافونه وقيل يظنون أنهم ملاقو ثوابه ويجب أن يكون ذلك على الظن والطمع لا القطع عليه والحتم به كما في قول إبراهيم عليه السلام والذي أطمع أنه يغفر لي خطيئتي وإذا كان الإجراء الظن على حقيقته هذه الوجوه فلا معنى لحمله على العلم وإن جاء ذلك كما قال دريد ولما رأيت الخيل قبلا كأنها جراد تبارى وجهه الريح مغتدي فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج سراتهم في الفارسي المسرد لا تجزي لا تغني جزت أغنت في الحجازية الفصحى وفي التميمية أجزأت.